فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والإحساس يختلف من حاسة إلى أخرى، فمرة يكون الإحساس بالبصر، ومرة بالأذن، ومرة بالشم أو باللمس أو بالذوق‏.‏
والذوق هو سيد الأحاسيس، فهو لا يضيع من أحد أبدًا، فقد نجد إنسانًا أعمى، وآخر أصم، أو شخصًا ثالثًا أصيب بالشلل فلا تستطيع يده أن تلمس، وقد يصاب واحد بزكام مستمر فلا يصبح قادرًا على الشم، أما الذوق فهو حاسة لا تختفي من أي إنسان، لذلك أن الذوق أمر من داخل الذات؛ لذلك فهو أبلغ في الإيلام‏.‏ ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول‏:‏ {‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ‏}‏ [‏النحل‏:‏ 112‏]‏‏.‏
انظر إلى التعبير القرآني {‏فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ‏}‏‏.‏ جاء التعبير بالإذاقة، وجاء بشيء لا يذاق وهو اللباس‏.‏ وهل اللباس يذاق‏؟‏ لا، لكنه سبحانه يريد ان ينبه الإنسان إلى أن كل الحواس التي فيه تحس، حتى تلك الحاسة المختفية داخل النفس، إنّ ذلك يَشمل كل جزء في الإنسان‏.‏
فالإذاقة تحيط بالإنسان في هذا التصوير البياني القرآني الكريم‏:‏ {‏فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ‏}‏‏.‏ إذن فهي شدة وقع الإيلام؛ واستيعاب العذاب المؤلم لكل أجزاء الجسم حتى صار الذوق في كل مكان‏.‏ {‏ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ‏}‏، والحريق هو النار القوية التي تحرق ومن بعذ ذلك يقول الحق‏:‏ {‏ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏‏.‏
{‏ذلِكَ‏}‏ إشارة إلى عذاب الحريق‏.‏ والحق سبحانه لم يظلمهم، لكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم‏.‏ {‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ فهل معنى ذلك أن كل المعاصي من تقديم اليد‏؟‏ إن هناك معصية للعين، ومعصية للسان، ومعصية للرجل، ومعصية للقلب، ولا حصر للمعاصي‏.‏ فلماذا إذن قال الحق‏:‏ {‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏‏؟‏
قال الحق ذلك لأن الأعمال الظاهرة تٌمارس عادة باليد؛ فاليد هي الجارحة التي نفعل بها أكثر أمورنا، وعلى ذلك يكون قول الحق‏:‏ {‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ مقصود به‏:‏ بما قدمتم بأي جارحة من الجوارح‏.‏
وبعد ذلك يخبرنا سبحانه‏:‏ {‏وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏ لقد أذاقهم عذاب الحريق نتيجة ما كتبه عليهم؛ من قول وفعل‏.‏ والقول هو الافتراء باللسان حين قالوا‏:‏ {‏إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ‏}‏‏.‏ والفعل هو قتلهم الأنبياء‏.‏ فهم يستحقون ذلك العذاب‏.‏
والقضية العامة في الإله وعدالة الإله أنه ليس بظلام للعبيد‏.‏
وهنا وقفة لخصوم الإسلام من المستشرقين، هم يقولون‏:‏ الله يقول في قرآنهم {‏وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏، وكلمة ظلام هي مبالغة في كلمة ظالم، ففيه ظالم وفيه ظلاّم‏، و‏الظَّلاّم هو الذي يظلم ظلمًا قويًا ومتكررًا؛ فظلاّم هي صيغة مبالغة في ظالم‏ ‏.‏
وحين نرد عليهم لابد لنا أن نعرف أن صيغ المبالغة كثيرة، فاللغويون يعرفون أنها‏:‏ فعّال، فعيل، مفعال، فعول، فَعِل، فظلاَّم مثلها مثل قولنا‏:‏ أكَّال، ومثل قولنا‏:‏ قتَّال بدلًا من أن نقول‏: قاتل فالقاتل يكون قد ارتكب جريمة القتل مرة واحدة، لكن القتَّال هو من فعل الجريمة مرات كثيرة وصار القتل حرفته‏.‏ ومثل ذلك ناهب، ويقال لمن صار النهب حرفته‏:‏ نَهَّاب أي أنه إن نهب ينهب كثيرًا، ويعدد النهب في الناس‏.‏
وهذه تسمى صيغة المبالغة‏.‏ وصيغة المبالغة إن وردت في الإثبات أي في الأمر الموجب فهي تثبت الأقل، فعندما يقال‏:‏ فلان ظلاّم فالثابت أنه ظالم أيضا، لأننا ما دمنا قد أثبتنا المبالغة فإننا نثبت الأقل‏.‏ ومثل ذلك نقول‏: فلان علاّم أو فلان علاّمة فمعنى ذلك أن فلانًا هذا عالم‏.‏ ولكن إذا قلنا‏:‏ فلان عالم فلا يثبت ذلك أنه علاّمة ‏.‏ فصيغة المبالغة ليس معناها اسم فاعل فحسب، إنها أيضا اسم فاعل مبالغ فيه، لأن الحدث يأتي منه قويًا، أو لأن الحدث متكرر منه ومتعدد‏.‏ فإذا ما أثبتنا صفة المبالغة فمن باب أولى تثبت صفة غير المبالغة، فإذا ما قال واحد‏:‏ فلان أكّال فإنه يثبت لنا أنه آكل، هذا في الإثبات‏.‏
والأمر يختلف في النفي‏.‏ إننا إذا نفينا صفة المبالغة تثبت الصفة التي ليس فيها مبالغة من باب أولى‏.‏ أما إذا نفيت صفة المبالغة فلا يستلزم ذلك نفي الصفة الأقل‏.‏
والتذليل للآية التي نحن بصددها الآن هو {‏وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏‏.‏
يفهم المستشرقون من هذا القول أنه مجرد نفي للمبالغة في الظلم، لكنها لم تنف عنه أنه ظالم ولم يفهم المستشرقون لماذا تكون المبالغة هنا‏:‏ إن الحق قد قال‏:‏ أنه ليس بظلاَّم للعبيد، ولم يقل أنه ليس بظلام للعبد‏.‏ ومعنى ذلك أنه ليس بظلام للعبيد من أول آدم إلى أن تقوم الساعة، فلو ظلم كل هؤلاء- والعياذ بالله- لقال أنه ظلام، حتى ولو ظلم كل واحد أيسر ظلم‏.‏ لأن الظلم تكرر وذلك بتكرر من ظُلِم وهم العبيد، فإن أريد تكثير الحديث فليفطن الغبي منهم إلى أن الله قال‏:‏ {‏وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏ ولم يقل أنه ليس بظلام للعبد‏.‏
وإذا كان الظالم لابد أن يكون أقوى من المظلوم، أذن فكل ظلم يتم تكييفه بقوة الظالم‏.‏ فلو كان الله قد أباح لنفسه أن يظلم فلن يكون ظالمًا؛ لأن عظم قوته لن يجعله ظالمًا بل ظَلاَّما‏.‏
فإن أراد الحدث فيكون ظلامًا، وإن أردنا تكرارًا للحدث فيكون ظلامًا‏.‏ وحين يحاول بعض المستشرقين أن يستدركوا على قول الحق‏:‏ {‏وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏ فهذا الاستدراك يدل على عجز في فهم مرامي الألفاظ في اللغة أو أنّ هؤلاء يعلمون مرامي الألفاظ ويحاولون غش الناس الذين لا يملكون رصيدًا لغويًا يفهمون به مرامي الألفاظ‏.‏ ولكن الله سبحانه وتعالى يُسخر لكتابه من ينبه إلى إظهار إعجازه في آياته‏.‏
وبعد أن انتهى الحق من غزوة أُحُد، فهو سبحانه يريد أن يقرر مبادئ يبين فيها معسكرات العداء للإسلام‏:‏ معسكر أهل الكتاب، ومعسكر مشركي قريش في مكة، ومعسكر المشركين الذين حول المدينة وكانوا يغيرون على المدينة‏.‏
فبعد غزوة أُحٌد التي صفّت، وربّت، وامتحنت وابتلت، وعرّفت الناس قضايا الدين، أراد الحق بعدها أن يضع المبادئ‏.‏
فأوضح القرآن‏:‏ أن هؤلاء أعداؤكم؛ تذكروهم جيدًا، قالوا في ربكم كذا، ويقولون في رسولكم كذا، وقتلوا أنبياءكم‏.‏ اهـ‏.‏

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)}
أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: «دخل أبو بكر بيت المدراس فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم فقال أبو بكر: ويلك يا فنحاص.! اتق الله وأسلم، فوالله أنك لتعلم أن محمدًا رسول الله تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، ولو كان غنيًا عنا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنيًا عنا ما أعطانا الربا. فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدوّ الله. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد انظر ما صنع صاحبك بي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله قال قولًا عظيمًا: يزعم أن الله فقير وأنهم أغنياء. فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه. فجحد فنحاص فقال: ما قلت ذلك. فأنزل الله فيما قال فنحاص تصديقًا لأبي بكر {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير....} الآية» ونزل في أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا....} [آل عمران: 186].
وأخرج ابن جرير وابن المنذر من وجه آخر عن عكرمة «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى فنحاص اليهودي يستمده، وكتب إليه وقال لأبي بكر: لا تفتت عليّ بشيء حتى ترجع إليَّ. فلما قرأ فنحاص الكتاب قال: قد احتاج ربكم. قال أبو بكر، فهممت أن أمده بالسيف، ثم ذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تفتت عليّ بشيء. فنزلت {لقد سمع الله قول الذين قالوا...} الآية». وقوله: {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [آل عمران: 186] وما بين ذلك في يهود بني قينقاع.
وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير} قالها فنحاص اليهودي من نبي مرثد لقيه أبو بكر فكلمه فقال له: يا فنحاص اتق الله، وآمن وصدق، وأقرض الله قرضًا حسنًا. فقال فنحاص: يا أبا بكر تزعم أن ربنا فقير وتستقرضنا أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني، إن كان ما تقول حقًا فإن الله إذن لفقير. فأنزل الله هذا فقال أبو بكر: فلولا هدنة كانت بين بني مرثد وبين النبي صلى الله عليه وسلم لقتلته.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: صك أبو بكر رجلًا منهم {الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} لم يستقرضنا وهو غني. وهم يهود.
وأخرج ابن جرير عن شبل في الآية قال: بلغني أنه فنحاص اليهودي وهو الذي قال: {إن الله ثالث ثلاثة} [المائدة: 73] و{يد الله مغلولة} [المائدة: 64].
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتت اليهود محمدًا صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله: {من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا} [البقرة: 245] فقالوا: يا محمد أفقير ربنا يسأل عباده القرض؟ فأنزل الله: {لقد سمع الله قول الذين قالوا...} الآية.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: {لقد سمع الله....} الآية. قال: ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب لما نزلت {من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرة} [البقرة: 245] قال: يستقرضنا ربنا إنما يستقرض الفقير الغني.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن العلاء بن بدر أنه سئل عن قوله: {وقتلهم الأنبياء بغير حق} وهم لم يدركوا ذلك قال: بموالاتهم من قتل أنبياء الله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {ونقول ذوقوا عذاب الحريق} قال: بلغني أنه يحرق أحدهم في اليوم سبعين ألف مرة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وأن الله ليس بظلام للعبيد} قال: ما أنا بمعذب من لم يجترم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (183):

قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان القربان من جنس النفقات ومما يتبين به سماح النفوس وشحها حسن نظم آية القربان هنا بقوله- رادًّا شبة لهم أخرى ومبينًا قتلهم الأنبياء: {الذين قالوا} تقاعدًا عما يجب عليهم من المسارعة بالإيمان {إن الله} أي الذي لا أمر لأحد معه {عهد إلينا} وقد كذبوا في ذلك {ألا نؤمن لرسول} أي كائن من كان {حتى يأتينا بقربان} أي عظيم نقربه لله تعالى، فيكون متصفًا بأن {تأكله النار} عند تقريبه له وفي ذلك أعظم بيأن لانهم ما أرادوا- بقولهم: {إن الله فقير} حيث طلب الصدقة- إلا التشكيك حيث كان التقرب إلى الله بالمال من دينهم لاذي يتقربون إلى الله به، بل وادعوا أنه لا يصح دين بغيره.
ولما افتروا هذا التشكيك أمر سبحانه بنقضه بقوله: {قل قد جاءكم رسل} فضلًا عن رسول.
ولما كانت مدتهم لم تستغرق الزمان الماضي أثبت الجار فقال: {من قبلي} كزكريا وابنه يحيى وعيسى عليه السلام {بالبينات} أي من المعجزات {وبالذي قلتم} أي من القربان فإن الغنائم لم تحل- كما في الصحيح- لأحد كان قبلنا، فلم تحل لعيسى عليه السلام فلم تكن مما نسخه من أحكام التوراة، وقد كانت تجمع فتنزل نار من السماء فتأكلها إلا إن وقع فيها غلول {فلم قتلتموهم} أي قتَلَهم أسلافكم ورضيتم أنتم بذلك فشاركتموهم فيه {إن كنتم صادقين} أي في أنكم تؤمنون لمن أتاكم على الوجه الذي ذكرتموه، وفي ذلك رد على الفريقين: اليهود المدعين أنهم قتلوه الزاعمين أنه عهد إليهم في الإيمان بمن أتاهم بذلك، والنصارى المسلمين لما ادعى اليهود من قتله المستلزم لكونه ليس بإله. اهـ.

.اللغة:

{عهد إلينا} أوصانا.
{بقربان} القربان: ما يذبح من الإنعام تقربا إلى الله تعالى.
{البينات} الآيات الواضحات، والمراد بها هنا: المعجزات.
{الزبر} جمع زبور هو الكتاب من الزبر وهو الكتابة، قال الزجاج: الزبور كل كتاب ذي حكمة.
{زحزح} الزحزحة: التنحية والإبعاد.
{فاز} ظفر بما يؤمل ونجا مما يخاف.
{الغرور} مصدر غره يغره غرورا أي خدعه.
{متاع} المتاع: ما يتمتع به وينتفع ثم يزول.
{لتبلون} لتمتحنن من بلاه أي امتحنه.
{عزم الأمور} المراد به صواب التدبير والرأي.
{بمفازة} بمنجاة من قولهم فاز فلان إذا نجا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

قال الفخر:
اعلم أن هذه هي الشبهة الثانية للكفار في الطعن في نبوته صلى الله عليه وسلم، وتقريرها أنهم قالوا: إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، وأنت يا محمد ما فعلت ذلك فوجب أن لا تكون من الأنبياء، فهذا بيان وجه النظم. اهـ.
وقال الفخر:
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد ومالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا، وزيد بن التابوب، وفنحاص بن عازوراء وغيرهم، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد تزعم أنك رسول الله وأنه تعالى أنزل عليك كتابًا، وقد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، ويكون لها دوي خفيف، تنزل من السماء، فإن جئتنا بهذا صدقناك، فنزلت هذه الآية.
قال عطاء: كانت بنو إسرائيل يذبحون لله، فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت، والسقف مكشوف فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه، وبنو إسرائيل خارجون واقفون حول البيت فتنزل نار بيضاء لها دوي خفيف ولا دخان لها فتأكل كل ذلك القربان.